أنباء الجامعــــــــة
خطاب إمام الحرم المكي الشريف: فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الرحمن عبد العزيز السديس / حفظه الله
في جامع رشيد الكبير في محيط الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند
يوم الجمعة: 19/ ربيع الثاني 1432هـ الموافق 25/مارس 2011م
نقله عن الشريط : محمد عاصم المئوي ، ومحمد قاسم الدهلوي
طالبان في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة
وراجع الخطاب بعد النقل : الأستاذ محمد ساجد القاسمي أستاذ بالجامعة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيد الأولين
والآخرين، ورحمة للعالمين، نبينا وحبيبنا وسيّدنا وقدوتنا «مُحمَّد بن عَبْد الله»
صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه دائمًا أبدًا إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أحمد الله – تبارك وتعالى –
وأشكره على ما منّ به في هذا اليوم الأغر من زيارة هذه الجامعة –
الجامعة العريقة، الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند – في مثل هذه البلاد
التي لها رسالتها العظيمة عبر قرون طويلة، وسنوات متعددة، فالحمد لله والشكر له
على هذه النعمة السَّابغة، فكم له علينا من آلاء وفضائل ونعم لانحصي لها عدًّا.
أنقل إليكم أيها الإخوة في هذا اللقاء الماتع المبارك تحيّاتِ وتقديرَ حكومة
المملكة العربية السُّعودية وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين –
وفّقه الله وأيّده ورعاه – وكذلك سموّ ولي عهده، وسمو النائب الثاني للحكومة الرشيدة، وكذلك
علماء وأئمة الحرمين في مكة المكرمة، وفي المدينة النبوية المنورة على ساكنها أفضل
الصلوات وأتم التسليم، وكذلك شعب المملكة العربية السعودية الذي يُكنّ لكم المحبة
والتقدير. ويشيد بهذه الجهود المباركة التي تبذلها الجامعة، ويبذلها إخواننا
المسلمون في شبه القارة الهندية من تمسّكهم واعتزازهم بإسلامهم ودينهم وحبهم لمهبط
الوحي، ومنبع الرسالة، هذا الحب الذي ترجمه هذا الحضور الكثيف الذي تعب فيه الإخوة
تعبًا نسأل الله – عزَّ وجلَّ – أن يُثِيبَهم عليه ويأجرهم، وهو من الرباط في سبيل الله –
عزّ وجلّ – وهو من الأعمال الصالحة التي تدل على تلك المحبة لهذا الدين
ولعلماء الحرمين، ولمكة المكرمة، وللكعبة المشرفة، ولمسجد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فأشكر باسم المملكة العربية
السعودية القائمين على هذه الجامعة رئيسًا وإدارةً وموظفين وأعضاء هيئة التدريس
والطلاب الذين يترجم حضورهم هذا حبهم للعلم وأهله، فبوركت هذه الجهود، وجزاكم الله
عنا خيرًا. ويعلم الله إن المسلم ليسعد غايةَ السعادة وهو يرى هذه الوجوه الطيبة،
وهذا الجمع المبارك الذي يكتنف هذا اللقاء، في لقاء الواقع إنه تاريخيّ متميز. إن
الحضور الكثيف، إنما أتى به حبّ الإسلام وحبّ الحرمين وحب المملكة العربية
السعودية. إننا أيها الإخوة نحبكم في الله – عز وجلّ –
وندعو الله لكم دائما بالتوفيق والسّداد، ونُكْبِرُ ونُجِلُّ ونُعِزُّ فيكم هذه
الرغبة، وهذا الحب الكبير الذي لاشك أنه يترجم عمليًّا الإسلامَ الحقّ باعتداله و
وسطيّته الذي يقوم على العلم النافع وعلى العمل الصالح. «هُوَ الذِي أَرْسَلَ
رَسُوْلَه بالهُدٰى ودينِ الحقِّ لِيُظْهِرَه على الدِّين كله» فالهدى هو
العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، فينبغي على المسلم أن يحرص كلَّ الحرص
على أن ينوّر قلبه ونفسه وروحه بهذا العلم، والاستفادة منه؛ لأن العلم نور، والجهل
ظلام وشرور، العلم فضيلة، والشر رذيلة، «يَرْفِعِ الله الذِيْنَ اٰمَنُوا
مِنْكُم والذينَ أُوتُوا العِلْم دَرَجٰتٍ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُوْنَ وَالذِيْنَ لاَيَعْلَمُونَ» «وقل ربِّ زِدْنِي عِلْمًا» «من سلك
طريقاً يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة» «من يرد الله به خيرًا
يفقهه في الدين»
وما الفخر إلا لأهل
العلم إنه
على الهدى لمن استهدى
أدلاّء
وقدر كل امرئ ما كان
يحسنه
والجاهلون لأهل العلم
أعداء
فجزاكم الله خيرًا أيها الإخوة على هذا الاحتفاء وهذه الاحتفالية،
وجزاكم الله خيرًا على ما شهدناه ولمسناه ورأيناه من حب كبير لأهل العلم وحملته،
لاسيما من أهل الحرمين الشريفين؛ فإني عاجز عن هذا التعبير الذي لا أستطيع أن لا
أفي به من خلال هذا اللقاء، وهذا الحضور، وهذه المحبة؛ ولكننا لانملك لكم إلا
الدعاء لكم بالتوفيق والتسديد والتيسير. وعلينا أيها الإخوة أن نتحلّى تحليًّا
صحيحًا بالإسلام في عقيدته السمحة الصافية، في التوحيد لله رب العالمين. في الحِرص
على سنة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في
وحدة هذه الأمة، في الاجتماع والاعتصام بالكتاب والسنة، ومنهج سلف هذه الأمة
للتنوّر بالعلم النافع والعمل الصالح علوم الوحي وعلوم الآلة وعلوم العصر، فكلنا
بحاجة ماسّة إلى تطبيقها وإلى تحقيقها ليكون للمسلمين قوتهم وهيبتهم ومكانتهم
وثقلهم، إننا بحاجة ماسّة إلى فهم إسلام الحقّ، وإلى أن يكون المسلم رجل الأمن،
ورجل السّلام والاستقرار، وأن يُفعِّل الإسلام الصحيح؛ بأن يكون مواطنًا صحيحاً،
يحرص كل الحرص على أن يكون عينًا ساهرةً على أمن البلاد وعلى حفظ عمرانها.
وما الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند في
هذه البلاد إلا نموذج – ولله الحمد – مشرق في إخراج الجيل المتسلح بسلاح العلم والإيمان، فبوركت هذه
الجامعة، وبورك القائمون عليها، وبورك المسؤولون فيها، ومدرسوها وطلابها. وإننا
سعداء غايةَ السعادة، وأرى ذلك أيضاً في محيّا سفير خادم الحرمين الشريفين والوفد
المرافق الذين غمرهم جميعًا هذا الحبّ وهذا التعلّق وهذا التميّز، فجزاكم الله عنا
خير الجزاء، وشكر الله لكم، وبوركت هذه الجامعة وهنيئا للأمة الإسلامية، لاسيما
بالقارة الهنديّة هذا الجيل الذي يعتزّ بإسلامه ودينه. نسأل الله –
عز وجل – أن يرزقنا جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يوفقنا جميعًا
إلى ما يحبّه ويرضاه. وآخردعوانا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على
نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الخطبة
الأولى قبل صلاة الجمعة
إنّ الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، إلٰه الأوّلين
والآخرين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله - صلى الله عليه
وسلم - وبارك عليه وعلى آله الأطهار
وصحابته الأبرار والتّابعين ومن تبعهم بإحسان، ما تعاقب اللّيل والنّهار، أمّا بعد:
فياعبادَ الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله –
عزّ وجلّ – فإنّ تقواه – سبحانه – وصيّته للأوّلين والآخِرين من عباده، يقول الله –
عزّ وجلّ - : «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتٰبَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوْا اللهَ» ألا إنّما التّقوى هي العزّ
والكرم، وحبّك للدّنيا هو الذُّل والسَّقم، وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصة إذا اتّقى
حقّ التّقوى، وإن حاك أو هجم.
أيّها المسملون! الأفراد والمجتمعات، والأمم
والحضارات إنّما تقاس مدى تمسّكها بعقيدتها ومباديئها ومثلها وقيمها، وإنّ من فضل
الله – عزّ وجلّ – علينا نحن أبناء هذه الأمّة – أمّة الإسلام وأمّة
محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أن أكرمنا
الله بهذا الدّين دين الإسلام، الدّين الخاتم، دين الشمول والكمال «اَليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمُ
الْإِسْلاَمَ دِينًا» لاخير إلاّ في ظلّ الإسلام، جاء محمّد - صلى الله عليه
وسلم - وبُعِثَ رحمةً للعٰلمين،
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعٰلَمِيْنَ»، أنزل الله عليه هذا
الذّكر المبين، وهذا القرآن الحكيم، «وإنَّه لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ
تُسْئَلُوْنَ»، «لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُم كِتَابًا فِيْه ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ
تَعْقِلُوْنَ»، وهذا الإسلام – بحمد الله – شمل من العقائد أصْفَاها، ومن العبادات أسماها، ومن الأخلاق أزكاها
يقوم هذا الدّين أيّها المسلمون! على أصل التّوحيد والإخلاص لله ربّ العٰلمين،
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُوْنَ» «واعْبُدُوا اللهَ،
وَلَا تُشْرِكُوْا بِه شَيْئًا» هذه كانت رسالة الأنبياء والمرسلين «وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُوْلٍ إِلاَّ نُوْحِيْ إِلَيْه أَنَّهُ لاَ إلٰهَ
إلاّ أنا فَاعْبُدُوْن» فإخلاص الدّين لله مِن أهمّ الرّكائز الّتي ينبغي أن ينبني
عليها دين العبد في هذه الحياة، «أَلاَ لله الدِّيْنُ الْخَالِصُ» «وَمَا
أُمِرُوْا إِلاَّ لِيَعْبُدُوْا اللهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ حُنَفَاءَ»،
وكذلك تجريد المتابعة لرسُول الله الحبيب المصْطَفٰى، والرّسول المجتبٰى،
بأبي هو وأمّي - صلى الله عليه وسلم -
فلقد قال الله فيه: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللهَ واليَوْمَ الآخِرَ، وَذَكَرَ اللهَ كثيرًا»، ويقول -
صلى الله عليه وسلم - : من عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو ردّ، فواجب المسلم أن يتمسّك بكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - حريصًا على صحّة الاعتقاد،
وتجريد المتابعة للحبيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا خير في هذه الحياة إلاّ في ظلّ الكتاب
والسّنّة، ولذا فإنّ واجب الأمّة الإسلاميّة أن تعتصم بكتاب الله –
عزّ وجلّ – وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم
- وأن تحذر من التنازع والشقاق والاختلاف والافتراق، «واعْتَصِمُوْا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَّلاَ تَفَرَّقُوْا» «وَلاَ تَنَازَعُوْا فَتَفْشَلُوْا
وتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ وَاصْبِرُوْا إنّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِيْنَ» «مُنِيْبِيْنَ
إليْهِ وَاتَّقُوْهُ وأَقِيْمُوالصَّلوٰةَ وَلاَ تَكُوْنُوْا مِنَ
الْمُشْرِكِيْنَ» «مِنَ الَّذِيْنَ فَرَّقُوْا دِيْنَهُمْ وَكَانُوْا شِيَعًا
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْن»، فالاعتصام بالكتاب والسّنة، وتحقيق
وحدة الأمّة الإسلاميّة «إنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوْن»، هو منهج المسلم الحقّ ينبغي أن يسعى إليه، وَيُعْلِيَ رأيته في كل
زمان ومكان تحقيقًا للأخوّة الإسلاميّة «إنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ إخْوَةٌ» مثل
المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعٰى
له سائر الجسد بالسهر والحمّٰى، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا.
أيّها المسلمون! وإنّ من المنهج الحقّ الّذي
ينبغي أن يسير عليه المسلم منهج الوسَط والاعتدال كما قال الله –
عزّ وجلّ - : «وكَذلكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَّسَطاً» فلا غلوّ ولا جفا، ينبغي
على المسلمين أن يفهموا دينهم، وأنّه دين الأمن والخير والسّلام والرّحمة
والتّسامح والمحبّة والوئام، هذا هو المنهج السليم، هذه حقائق الإسلام وإشراقاته،
ومبادئه وجماليّاته، الّتي ينبغي أن نُعليها في كلّ الأزمنة والأمكنة، لاسيّما في
مثل هذه الأزمنة الّتي رُمِيَ الإسلام فيها بالمصطلحات الموهمة كمصطلح الإرهاب،
ولذا فينبغي على المسلمين أن يكونوا قدوةً حسنةً في تطبيق الإسلام الحقّ، بشموله
وكماله، ومحاسنه ومزاياه، وأنّه دين الله الصالح لكل زمان ومكان الّذي لاخير إلاّ
في ظلاله، ولا شرّ إلاّ في البعد عنه «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ
وَلاَ يَشْقٰى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فإنَّ لَهُ مَعِيْشَةً
ضَنْكاً» وإنّ من أكبر المشكلات الّتي يعانيها المسلمون في هذه الأزمنة مشكلة فهم
المسلمين لدينهم ولحقائق دينهم، وذلك الانفصام بين القول والتّطبيق والعمل، فينبغي
علينا أن نحرص كل الحرص على أن نتمسّك بديننا مُعلنين ومُعتزّين بعقيدته السمحة،
وبالوحدانيّة لله ربّ العٰلمين، وبالمتابعة لرسول الله المصطفى الأمين - صلى
الله عليه وسلم - وعلى أن نسير على منهج الإسلام
الوسط المعتدل، ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد.
كذلك ينبغي على المسلم وهو في مثل هذه البلاد
أن يكون مسلمًا صالحًا ومواطنًا صالحًا يحرص على النماء والإعمار والتنمية، وأن
يكون رسل أمن واستقرار في هذه البلاد الّتي يعيش فيها. فالمسلمون عبرَ التّاريخ لم
يُعْرَفُوا إلاّ بهذه الصورة المشرقة، ولذا دخل كثير من النّاس في دين الله –
عزّ وجلّ – أفواجًا نتيجةَ التّسامح والأمانة والصدق والمحبّة الّتي سلكها
الأسلاف، وما ذلك بغريب على دين كله رحمة، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً
لِلْعٰلَمِيْنَ» رحمة للعالمين ليس للمسلمين فقط، فالمسلمون أولى بالتراحم
فيما بينهم، وتحقيق الأخوّة الإسلاميّة، والبعد عن الاختلافات الفقهيّة،
والاختلافات في الوسائل الدّعويّة، فكلّنا ذلك الرّجل في حب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وهكذا كان الأسلاف والأخيار
والأئمّة الرّبانيّون العلماء الّذين هم محل الاقتداء من صحابة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ومن التابعين بعدهم، ومن
الأئمّة الكبار كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد،
فكلّهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ملتمس غرفًا من البحر أو رشفاً من الديم، هؤلآء علماء الإسلام الّذين هم
القدوة الّذين ينبغي أن يُذْكَرُوا بجميل حتّى مع الاختلاف بين أبناء المذاهب،
وبين أصحاب المذاهب، ينبغي أن يكون أدب الاختلاف، وأن تكون الشمائل والأخلاق
والمودّة والحوار والسماع للرأي الآخر والإنصات وحسن الأدب حتى ولو اختلفتَ مع من
اختلفتَ، ولايزالون مختلفين، لكن يبقى أدب المحبّة والرّحمة، وينبغي أن تكون
الصدور سليمة للمسلمين «وَالَّذِيْنَ جَاءُوْا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ
رَبَّنَا اغْفِرْلَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإِيْمَانِ
وَلاَ تَجْعَلْ فِيْ قُلُوْبِنَا غِلاًّ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَؤُوْفٌ رَّحِيْمٌ». وإنّ من فضل الله – عزّ وجلّ –
أنّ هذا الدّين منصور بنصر الله – عَزَّ وجلّ – ثم بما يهيّئه في كل زمان ومكان من الرّجال الّذين يحملون شُعَلَ
الدّعوة إلى الله – عز وجلّ – يحمل هذا الدّين من كل خَلَف عدول، ينفون عنه تحريفَ الغالين،
وانتحال المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، وها نحن نرى – ولله الحمد والمنّة –
هذه المساجد، وهذه المراكز، وهذه الجامعات والمصادر الإشاعيّة في نشر العلم
والدّعوة إلى الله – عزّ وجلّ – والحرص على جمع كلمة المسلمين، وإن إخوانكم في المملكة العربيّة
السّعوديّة، في مكّة المكرّمة، وفي المدينة المنوّرة، ليُجِلُّون ويباركون هذه
الجهود الّتي يقوم بها المسلمون في هذه البلاد، من حرصهم على التمسّك بهويتهم وعلى
دينهم وعلى لغتهم العربيّة، وهذا الحرص على جمع كلمة المسلمين، ووحدة كلمتهم، وأن
نتواصىٰ دائمًا بأن نكون رجال أمن وخيرٍ واستقرارٍ وسلامٍ ومحبّة ووئام، كما
كان أسلافنا الأجيال ولاينافي هذا أبدًا، اعتزاز المسلم بدينه وتمسّكه بثوابته
وقيمه، إنّنا بحاجة ماسّة عن التخلّي عن الأنانيات، وعن الفرقة والاختلافات، وأن
نعتصم بكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن نتحابَّ فيما بيننا ونتوادّ على الخير،
وأن يحرص المسلم على سلامة صدره وقلبه لإخوانه المسلمين، وأن يتسلّح بالعلم
النّافع والعمل الصّالح، فتلك بإذن الله أمارةُ السّعادة والخير والتوفيق بإذن الله
والله – عزّ وجلّ – يقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثٰى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحِيِيَنَّهُ حَيٰوةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ».
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وفي
سنّة سيّد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر
المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتُوبوا إليه، إنّه هو التّوّابُ الرَّحِيْم.
الخطبة
الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛
ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا. وأشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده
لا شريك له، إقرارًا به وتوحيده، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه
والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن أصدق
الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم
بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذ في النار.
أيها المسلمون! يتطلّع العالم اليوم إلى
مجتمعات تنعم بالأمن والاستقرار والخير والسلام، وإن المسلمين هم أولى من يحرص على
إعلاء هذه الراية؛ فإنهم رسل هداية للعالمين، البشريّة جمعاء، والإنسانية كافة
تتطلّع إلى عدل الإسلام، وإلى رحمة الإسلام وإلى اعتزاز المسلمين بحقوق الإنسان
أيًّا كان، وإن اختلفوا معه في الدين، وقولوا للناس حُسْنا، «مَنْ قَتَلَ نَفْساً
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِيْ الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعًا،
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَ النَّاسَ جَمِيعًا» وهذا هو شأن المسلم؛
لأنه يُحي القلوب بالعقيدة والإيمان بعد توفيق الله – عز وجل –
وبنور العلم النافع، والعمل الصالح وبأن يكون مواطنًا صالحاً وعضوًا فاعلاً ناميًا
مُنمّيًا للبلاد التي يعيش فيها «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» فالناس يعيشون في هذه الحياة للخلافة الراشدة بإذن الله
التي تقوم على إعزاز دين الله – عز وجل – وعلى تحكيم شرع الله – سبحانه –
وعلى التمسّك بدين الله – عز وجل – فديننا دين الشمائل والأخلاق، «وَإنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ
عَظِيمٍ» «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَضًّا
غَلِيْظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ».
فواجبنا عباد الله أن نتمسّك بديننا دين الخير،
والفضائل والبعد عن الشرور والرذائل، وأن يكون المسلمون في كل مكان قائمين بأمر
الله – عز وجلّ – مُنافحين عن دينه، متحلّين بالأخلاق الحسنة، يعرفون حقوق
الناس جميعًا، يحرصون على أداء حق الله – عز وجل – أولاً، وقبل كلِّ شيء، في عبادته وتوحيده وإخلاص الدين له،
وفي حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في محبّته واتباعه والتمسّك بسنته – عليه الصلاة والسلام – وحقّ المسلمين، بل هو حق غير المسلمين بأن يكون المسلم
دائمًا عضوًا فاعلاً بالخير في أيّ وطن يعيش فيه، وإن إخواننا في هذه البلاد: في بلاد
الهند، وفي هذه الدولة هم ولله الحمد والمنّة مِمَّن يعتزّون بإسلامهم، ويتمسّكون
بدينهم، ويُظهِرون شعائره، ويحرصون كل الحرص عليها، فهم محل الفخر والاعتزاز
والتقدير من المسلمين جميعاً، لاسيما إخوانهم في بلاد الحرمين الشريفين فنسأل الله
– عز وجلّ – أن يثْبتهم على الحق، وعلى الدين القويم، وأن يزيدهم من
التمسّك والاتحاد، فالاتحاد هو القوة، والاختلاف هو الفرقة وهو الضعف، وهو سبب
الهزائم والانتكاسات عبر القرون والتاريخ.
إننا ولله الحمد والمنة ونحن نشهد هذه الجموع
المباركة، هذه الجموع التي تحب الإسلام، وتحرص عليه لمتفائلون بإذن الله. فالمؤمن
دائماً يتفاءل مهما كثرت المشكلات؛ فإنه دائماً يتفاءل بنصرة دين الله –
عز وجل – فلا يعرف اليأس والإحباط إلى نفسه سبيلاً. فأسلافكم فتحوا هذه
البلاد بحسن التعامل وبحسن الشمائل والأخلاق، فأنتم خير خلف لخير سلف، تحملون مشعل
الهداية للناس جميعاً في هذه البلاد، وتكونون مواطنين صالحين مقيمين في هذه البلاد
إقامةً كلها الخير وكلها الاستبشار، والدعوة إلى الفضائل والتمسّك بالقيم والمثل
والمبادئ التي جاء بها هذا الدين بل وجاءت بها الشرائع الإسلامية كلها في نشر
الخير والعدل والمحبة والوئام والأمن والاستقرار والسلام والتمسّك بالنظام والبعد
عن الفوضىٰ والافتراق.
ثقوا بتوفيق الله بكم ونصركم وعزتكم. «وَلله
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلٰكِنّ الْـمُنَافِقِينَ
لاَيَعْلَمُوْنَ» هذا، وصلّوا وسلّموا رحمكم الله على خير الورى نبينا محمد بن عبد
الله كما أمركم بذلك ربكم – جلّ وعلا – فقال – تعالى – قولاً كريماً: «إنَّ اللهَ وَمَلٰئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى
النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا» اللّٰهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيد الأولين والآخرين، رحمة الله
للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
وارض اللّٰهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين! اللهم أعزّ
الإسلام والمسلمين، اللّٰهم أعز الإسلام والمسلمين، اللّٰهم أعز
الإسلام والمسلمين، اللّٰهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللّٰهم اجمع
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على كتابك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - اللّٰهم ارزقهم المودة والمحبة
والوئام، وأبعدهم عن الخلاف والشقاق والنزاع يا ذالجلال والإكرام! اللّٰهم
انصر إخواننا المسلمين في كل مكان! اللّٰهم وفِّق إخواننا في الهند! اللّٰهم
وفقهم لما تحب وترضى، اللهم انصرهم بالبر والتقوى، اللّٰهم ارزقهم التمسّك
بدينهم والثبات عليه، اللّٰهم اجعلهم إخوة متحابّين ومتوادّين على الخير
متعاونين، يقومون بهذا الدين يا حَيّ يا قيّوم! ويا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفق
إمامنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه وولي عهده والنائب الثاني
واجز هم خيرالجزاء على ما قدّموا ويقدّمون للإسلام والمسلمين، اللّٰهم اجعل
ذلك في صحائف أعمالهم يا حيّ يا قيوم! اللّٰهم وفق القائمين والمسؤولين في
هذه البلاد، اللّٰهم وفقهم لكل خير، اللّٰهم ارزق بلاد الهند الأمن
والاستقرار يا ذا الجلال والإكرام! وأبْعِد عنهم الفوضى والافتراق، ووفقهم للخير
في دينهم ودنياهم يا حي يا قيوم! وفي سائر بلاد المسلمين، اللّٰهم أنْقِدْ
المسجد الأقصى، اللّٰهم أنقد المسجد الأقصى، وانصر كل إخواننا المستضعفين في
كل مكان، وانصر إخواننا في كشمير و في كل مكان، يا قويّ، يا عزيز يا حيّ يا قيوم!
الذين يقومون بدينك ويُعِزّون أولياءك، اللّٰهم انصرهم في كل مكان يا ذا
الجلال والإكرام! اللّٰهم هَيِّئْ لأمة الإسلام من أمرها رشدًا، اللّٰهم
أَدِم الأمن والاستقرار، اللّٰهم احفظنا من الفتن، اللّٰهم احفظنا
والمسلمين من مُضِلاّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللّٰهم اكْفِنا شرَّ
أعدائنا وأعدائك برحمتك وكرمك وقوتك وقدرتك يا قويّ يا عزيز! اللهم اكفِ المسلمين
شرور أعدائهم اللّٰهم اجعل المسلمين متحابين وإخوة متعاونين متوادّين
منصورين، اللهم أذهب عنهم الفتن والمِحن يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا
ذا الجلال والإكرام! اللّٰهم وفقنا لما تحب وترضى، اللّٰهم وفّق
إخواننا الحاضرين في هذا المسجد والمتابعين له، اللّٰهم اجعله هذا من الرباط
في سبيلك، واجعل أعمالهم في موازينك، واجز القائمين على هذا الجامع وعلى هذه
الجامعة خير الجزاء على ما قدّموا ويقدمون للإسلام والمسلمين، وعلى ما تعِبوا في
أداء هذه المهمّة العظيمة، اللّٰهم فاجعل ذلك في موازين حسناتهم وصحائف
أعمالهم، اللّٰهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا بالبرّ والتقوى،
«وأعطنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنـا عذابَ النار» وآخر دعوانا عن
الحمد لله رب العالمين.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1432هـ = يونيو 2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35